Sunday, December 23, 2012

حرية حرية... نشتي دولة مدنية



نشر في صحيفة الأولى يوم 23 ديسمبر 2011

وطئت قدماي تونس يوم السابع عشر من ديسمبر 2011 في صباح ممطر و بعد سفر طويل لم يمنعني من أن أترك حقيبتي في ردهة الفندق و أستسلم لروحي التي جرتني إلى شارع الحبيب بو رقيبة وحدي دون أن أنتظر مجيء صديقتي التونسية التي حذرتني من أن أنفرد بمتعة استكشاف تونس دونها, و لا إرادياً وجدت نفسي بين جموع الهاتفات و الهاتفين في ذكرى الشرارة الأولى ...في الحبيب بو رقيبة هتفت بحرارة  كلمات من قلب النشيد الذي حفظته منذ الطفولة: "نموتُ.. نموتُ و يحيا الوطن!" كنت أحس أنني مدينة لهذا الشعب بميلاد روحي و في ذلك المقطع من نشيدها الوطني دين أحمله للجموع التي افترشت  شارع الحبيب بو رقيبة لتمنحنا قبساً من ضوء تونس حملناه معنا حتى الآن.. و يومها كنت أشعر بالحظ البالغ لملامسة هواء تونس العليل قلبي الخافق بكل تلك الأحلام و الرؤى و لكني كنت أيضاً أشعر بشعور غريب لتخلفي عن رفاقي و رفيقاتي في اليمن لأول مرة  خاصة في خضم الحدث الذي بدأ بعدها بأيام و تحديداً الثلاثاء الموافق 20 ديسمبر 2011

التقيت بعبد الناصر العاصمي لأول مرة قبل أربعة أعوام حين كنت معلمته في صف اللغة الانجليزية الذي تسجل فيه بعد دوامه الصباحي.. لم أكن أعلم حينها أن عبد الناصر سيصبح رفيق النضال الذي يغادرنا بنفس الهدوء و ذات الابتسامة الذين منحنا إياهما في خيام و مسيرات ساحة التغيير و قبلها بسنوات في الصف الذي كان حريصاَ على الالتزام بمتطلباته دون شكوى أو تذمر من كثرة الواجبات و الاختبارات... ابتسامة عبد الناصر الهادئة كانت دائماً تعكس طهر الآمال التي حملتها قلوب من قطعوا 280 كيلومتراً مشياً على الأقدام من تعز إلى صنعاء رغم أنف النزاع المسلح في صنعاء و نهم و أرحب و تعز و رغم أنف خذلان العالم و الإقليم لتطلعات الانتفاضة الشعبية السلمية في اليمن ليجعلوا من مسيرة الحياة حقيقة...

استشهد عبد الناصر في دار سلم حينما خرج مع اليمنيين و اليمنيات إلى مشارف صنعاء لاستقبال مسيرة الحياة و التي استمرت خمسة أيام جابت فيها القرى والعزل و الجبال و الوديان في ملحمة أسطورية للحياة.. خرج عبد الناصر يوم 24 ديسمبر 2011 ليلتحم بالمناضلات و المناضلين السلميات و السلميين الذين تحملوا البرد القارس و تضاريس بلادنا التي تشتد قسوتها في الشتاء حتى تمزقت الأقدام و هي تخطو نحو صنعاء ليرتفع صوت القبائل التي تركت السلاح مع العمال و الطالبات و الطلاب و هم ينشدون: "حرية حرية.. نشتي دولة مدنية"



بالرغم من فرحتي في تلك الأيام لوجودي في ذلك البلد الذي لا أشفى من حبه كما قال درويش, إلا أن فرحتي كانت منقوصة و أنا أفكر بغيابي عن ذلك المشهد المهيب, و هكذا  و بعد أيام من وصولي إلى تونس, تغيبت عن عملي لأبقى في حجرتي أشاهد الأجساد التي التحفت السماء و افترشت الأرض و هي تتقدم نحو مشارف صنعاء و برغم التعب و نزيف أقدامهم
/ن الحافية, إلا أنني رأيت في تلك الجموع –الحياة- حينما التحم الكادحون و الكادحات مع الأطباء و المهندسين و الطلاب رجالاً و نساء ليبعثوا في نضال هذا الشعب و سلميته ما أردوا: الحياة!

و أنا أشاهد من بعيد دخول المسيرة إلى مشارف صنعاء وجدت نفسي أنشد المقطع الثالث من النشيد الوطني اليمني:
في خطى الواثق تمشى قدمي .. مثل سيل وسط ليل يرتمي...هي أرضي زرعت لي في فمي .. بسمة الخير وناب الضيغم
وهو ايماني يؤاخي في دمي .. فرحة النصر وحزن المأتم ...فوجودي ليس يخشى عدمي ..
و لم يقطع صوتي سوى دموعي التي تغلبت على غنائي حين وصلني خبر استشهاد عبد الناصر و ذبح المسيرة على أعتاب صنعاء  حيث امتزجت دماء القادمين مع المستقبلين في دار سلم التي أبت قوات النظام إلا أن تحولها إلى دار دم و ألم...

حضرني كل هذا يوم الأربعاء 19 ديسمبر 2012 و أنا أشهد بداية النهاية لحكم العائلة حين أصدر الرئيس عبد ربه منصور هادي دفعة من القرارات التاريخية التي سعت إلى بدء توحيد الجيش  على أمل أن نصل إلى باقي المراحل من توحيد و إعادة هيكلة القوات المسلحة لبناء جيش وطني يحمي الشعب و ليس الأسرة.. لم أستطع أن أتمالك مشاعري و أنا أرى الجميع يحتفل بالرغم من مخاوفنا و ثقتنا المهزوزة بكل شيء إلا أنني أيضاً كنت سعيدة لأرى البداية و لكني وجدت نفسي أجهش بالبكاء حين كان أول رقم اتصلت به لأشاركه فرحتي هو رقم عبد الناصر.. لحظتها أدركت أنهم بالفعل أحياء في قلوبنا و لو من خلال تلك الابتسامات التي تركوها لنا ليلزمونا بوعدنا: إنا على الدرب سائرون...


لنحتفل بكل خطوة صغيرة كانت أو كبيرة.. فنحن نستحق الفرح و الحياة قبل أن نستمر في النضال و لننشد و نجعل العالم ينشد معنا و لكن لنتذكر في كل صباح من غادروا لنحيا... فلترددي
أيتها الدنيا نشيدي...رددي وأعيدي وأعيدي..واذكري في فرحتي كل شهيدي وامنحيه حلللا من ضوء عيدي....





 

No comments:

Post a Comment