Thursday, January 15, 2015

عن نوفمبر في ذكرى يناير*


على عكس الليالي التي هجرتها إلى أجل غير مسمى في عاصمة ساحات "الحرية و التغيير", زارتنا الكهرباء الليلة في خيلاء  يليق بها بعد أن تمنعت أكثر من تمنع رغيف الخبز المتقلص دورياً في مخبز حينا, فجاءت ليستريح التلفاز من سباته الليلي و يصفعنا صفعة نوفمبر. نوفمبر الذي حملت لنا ليلته الثالثة و العشرون قبل ثلاثة أعوام "الحصانة", ختم آخر فصول كتاب ظننا يوماً أننا نكتبه بينما كُتِبَ هو بنا, حمل لنا اليوم البراءة.
هربت من التلفاز بعد أن وعدت نفسي صباح اليوم بأن أهجر كل ما يعكر صفو خدرٍ قسري فرضه الواجب الوطني الذي تفتضيه المرحلة الانتقالية بكل توابعها من حظر تجوال إلى ظلام دامس و ما بينها من طوابير مشتقات نفطية.  هربت من التلفاز و من نوفمبر الجبار الذي اجتهد في حياكة المشهد الذي لم تختلف تفاصيله بين مبادرة خليجية في صنعاء خنقت كل الهتافات و رشت دموعنا و عرقنا و دماءنا على ورق التسوية, ليعود اليوم نوفمبر و يمنح محمد حسني مبارك البراءة. هربت من التلفاز إلى قائمة أغانٍ أردت أن تلهيني دون أن ألحظ أن الأغاني هي آخر معاقل الأصوات التي نفني نهاراتنا و نحن نود إسكاتها إكراماً للمرحلة الانتقالية و "تصالحها" الوطني, فجاءتني قائمتي ب"ضرب الخناجر و لا حكم النذل فيا", و كانت آخر صفعة اعتصرت مكابح النواح و النشيج فقد  ضربنا بالخناجر و ساد حكم النذل فينا.
ماذا ستحمل لنا يا نوفمبر القادم؟ أهي توبة نصوح أردتها منا؟ توبة من زجاجة الخل و شال يوهمنا بأنه يقف بيننا و بين الغاز؟ توبة من هتاف بات عويلاً فوق قبور رفاق غادروا  و هم يوصون:
"يا شباب اليمن  ثوروا يا عمال يا فلاحين... ضد القوى الرجعية  نشيد الدولة المدنية ...قسماً بأن نناضل كل يوم من جديد ...و نسقي من دماءنا اليمن السعيد
هل ستصدقني يا نوفمبر إن همست لك بأننا كنا نؤمن أن الهتاف أيضاً يقف بيننا و بين الرصاص الذي حوله شقيقك سبتمبر إلى قذائف مفتتحاً تقليداً سنوياً لم يتب حتى و إن تبنا..
هل ستصدقني يا نوفمبر إن قلت لك أن ريم كانت تسهر ترتب أبيات الشعر بعناية كضفيرة شعرها الريفية,  تلف البيت في صدر الأخر لتقرأه على المنصة؟ هل ستصدقني إذا قلت لك أن حمدي كان يهرب من الرصاص بميكرفون عتيق تناوبنا على حمله و كأن الرصاص يهزم بالصوت: "علوا علوا علوا الصوت.. إحنا شباب ما يهاب الموت"
هل ستصدق أن بلقيس كانت تخاطب الواقفين في الشرفات و نحن نطوي الشوارع التي بات قطعها بسيارة أجرة يكلف خمسمائة ريال: ياللي عادك بالمنزل, إلحق بالثورة و انزل..
هل ستصدق أن إبريل أخذ ناصر و سبتمبر أخذ حسن و ديسمبر أخذ عبد الناصر, لكن مسيرة الحياة وصلت دار سلم؟
يا نوفمبر لو كنت سلمت الراية لشهر آخر, لكنت تحملت الخبر و عدت للخدر الواجب لأثبت وطنيتي و دعمي للمصالحة الوطنية التي تأتي في كل الأدبيات مرافقة للعدالة الانتقالية إلا في شقنا المنكوب من العالم. ففي بقعتنا, تسخر منا الشهور تباعاً و نحن نُسلب العدالة باسم دفع "شبح الحرب" الذي فرخ مردةً  اكتمل جبروتها برايات حروبها المقدسة التي لا يمكننا حتى أن نقول أننا نراها حتى و هي تقتلنا كونها "أشباح" لا يجب أن تقف في طريق المصالحة الوطنية. و لكن تبقى سخريتك هي الأمر الواقع على رؤوسنا! فأيامك حوت اليوم العالمي لإنهاء الحصانة في الوقت الذي اجتمع فيه العالم لمنح الحصانة و البراءة لتتوج ملكاً على رأس كل الشهور التي تحسب علينا أعماراً..

يا نوفمبر, التوبة النصوح كما علمونا صغاراً هي تلك التي نعلن فيها الندامة قرباناً يشحذ عزيمتنا كي لا نعاود ما عزمنا على مقاطعة إتيانه. لكن ما اختلف فيه معلمونا هو سبب التوبة. هل تقبل التوبة التي قُصِدَت خوفاً أم أنها لا تقوم إلا إذا كانت حباً و طمعاً في الرضى. في حالتي, طردت صغيرة من الصف لأني أنكرت التوبة الأولى و فضلت الأخرى ذات الحب و القناعة, فاعلم أنني اليوم أيضاً ما زلت لا أؤمن بتوبة الخائف, و ما توبتنا اليوم إلا خوف من في يديهم  بقية من بلاد  فاستراحوا كي لا تضيع البقية.
*  كتب هذا النص في نوفمبر 2014 و ينشر اليوم في الذكرى الرابعة لأول وقفة تطالب بإسقاط النظام في 15 يناير 2011