Monday, April 9, 2012

عندما تئن المدن



عندما تئن المدن...

سارةجمال علي  أحمد
http://aljabha.org/index.asp?i=63684          السبت 5/11/2011
*نحن شبابٌ سلمي كنا و ما زلنا نضحي من طرف واحد.. لكن عند دوي الانفجار الثاني، تصبح الكذبة عارا و تتساقط دموعي لتطفئ شمعتي الوحيدة...فأنا أعلم أن كل انفجار يحصد وجوه الأطفال و النساء و الرجال التي ستظل تلاحقني إلى أن أموت...*

      لطالما جذفتُ ضد التيار وحيدة.. لطالما آمنتُ بما كفرَ بهِ الآخرون.. و لطالما لاحظت ما كان غير مرئي لمن هم حولي.. لا تسيئوا فهمي! أنا لا أمدح نفسي هنا، هي نقمة و ليست نعمة.. فلم أعد أستسيغُ الطعام و بالكاد تنعسُ عيناي بعد أن ينهكهما السهر..
    في مدينتي، صارت الأرضُ تئن، و صار أنينها يختنق بدخانِ احتراقِ معالمها.. و ما هي معالم أي مدينة؟ أليست المباني العتيقة، و رائحة القهوة، و طعم الخبز و قهقهات الأطفال؟ كل ذلك اختفى! فالمباني العتيقة صارت أوراقا مشوهة بعباراتٍ كإرحل أو لن يرحل و ملصقاتٍ تحمل صور أفراد العائلة المالكة تذيلها عبارات كُتِبت بلغة ركيكة و إملاءٍ ضعيف. أما الخبز و القهوة فصارا من الكماليات التي لا تعرفها الأسر اليمنية في بلد يعيشُ ستون بالمائة من سكانه بأقل من دولارٍ في اليوم...
هذه أول مرة منذ خمس سنوات، لا أعمل فيها خلال شهر رمضان.. في الحقيقة هذه أول سنة أنقطع فيها عن العمل بشكل متكرر.. اعذروني، فأنا لم أتقن أبدا فن التأقلم! انقطعت عن العمل بضعة أشهر لأنخرط في صفوف الثوار مع باقي أصدقائي و صديقاتي.. وها أنا اليوم أنقطع عن العمل مرة أخرى في محاولةٍ مني لأن أعيش عزلة تمكنني من فهم ما حولي، فأنا كما ذكرت لا أتقن فن التأقلم!

       منذ عدت من  السفر، و أنا أعيش حالةً من الانفصال عما يدور حولي.. لا أريد أن أصدق أي شيء، فأنا قضيتُ خمسة أسابيع في شوق إلى الوطن الذي يفهم أهله معنى القضية التي طالما حملتها في لمعان عيني الواسعتين اتساع حقول البن في بلادي.. و ها أنا أعود لأرى القضية تُسحق بين مطرقة تجار الفضيلة و سندان تجار الحرب!
    صارت أمسياتي متشابهة.. أغسل صحون العشاء ثم أخرج إلى ذلك المقهى الذي صار منزلي الثاني منذ أن افتتح في بداية هذا العام و أمشي قرابة نصف الساعة و أنا أستمع إلى ذات الأغنية كل مساء : "قوم نحرق هالمدينة و نعمر واحدة أشرف.. قوم ننسى هالزمان، و نحلم زمن ألطف...." أرقبُ تفاصيل الشوارع و الأزقة في ذهول.. فمدينتي صارت مدينتين في قلب مدينة، إحداهما شمالية و الأخرى جنوبية و تفصلهما الخنادق و المتاريس و الدبادبات، و تحرسُ انفصالهما سيارات مكافحة الشغب و المجاميع المسلحة. و بين القصور ذات الأسوار العالية و المحاطة بالسيارات الفارهة و البيوت الطينية العتيقة هناك الأسواق.. أليس نبض المدن أسواقها ؟ و الأسواق في مدينتي دائمةُ الازدحام حتى عندما تحترق سماؤها بالرصاص احتفاءً بتناول صاحب الجلالة وجبة العشاء أو تمكن فخامته من نزول الدرج دون مساعدة...
 
    لطالما ابهجني الزحام في الأسواق! ففيه مزيجٌ من الأمان و الألفة.. و لكن الزحام هذا العام خالٍ من الألفة.. هذا العام، هناك أطفال حفاة لا يشترون الألعاب، و إنما يبيعون البالونات لأطفالٍ في مثل أعمارهم... هذا العام هناك أسرٌ تستريح من عناء حمل الأكياس المثقلة بزينة الوجوه و المنازل في المطاعم التي يناولهم فيها الأطعمة موظفون لا يستطيعون شراء ما يقدمونه للزبائن... حالةٌ من الاغتراب*... و لا أستطيع أن أنسى عامل النظافة العجوز بأحد المراكز التجارية و هو ينظر من خلف عدستي نظارته المكسورة إلى واجهات المحلات حتى أتاه أحد الزبائن ليناوله كأس مشروبه ليرميها بدلا عنه، ثم اتجه إلى أحد محلات الساعات الفخمة في لا مبالاةٍ مستفزة تاركا الرجل خلفه ينظر في قعر الكأس عله يجد فيه ما يروي ظمأه..
صار الطريق إلى المقهى سبيلي لمعرفة واقع هذه المدينة..فأغلب الساسة المحنكين صاروا يتصارعون على اقتسام الكعكة و هي لا تزالُ عجينا.. و النخبة "المثقفة" ترتفع أقلامها للتنظير المتعالي و لا تنزل أبدا لملامسة أوجاع البسطاء... في طريقي إلى المقهى كل يوم، أًصادف أربع فتيات يجرين تجاه محل يبيع أجهزة التلفاز.. يفترشن لحافا مهترئا كتلك اللحافات التي كنا نشتريها للمعتصمين و ما تلبث أن تتحول إلى أكفان بعد أيام.. الفتيات الأربع يجدن سعادة غامرة تعينهن على احتمال البرد الذي يجمد أقدامهن الحافية كل ليلة، فقط، لأنهن يشاهدن مسلسلات الأطفال خلف واجهة المحل. لا يهم أنهن لا يستطعن سماع الحوار الذي تتبادلهُ شخصيات المسلسل، فالألوانُ وحدها تكفي لترسم البهجة على وجوههن في مدينة صار الظلامُ يكتنفها من كل ناحية.
  
      في المقهى.. أجلس لساعات مع الأصدقاء... نحاول أن نجمع مالا.. ربما نوزع ألعابا.. أو أكياسا من القمح؟ هل نعاود توزيع المنشورات؟ هل نصمم موقعا على الإنترنت؟ هل أحرقُ نفسي احتجاجا كما فعل محمد البوعزيزي رحمه الله؟ هل أضرب عن الطعام كما يفعل الآن الناشط الهندي أنا هازاري؟ هنا تبدأ الضحكات تتعالى! فأنا و أصدقائي صرنا لا نضحك إلا عندما نسخر من أحوالنا كحال كل أبناء هذا الجيل في هذه البلد.. فلو حرقت نفسي، لن ينتبه أحد! ألم تحرق قوات حرس الحدود السعودية عشرات اليمنيين المعدمين و رحّلت من تبقى منهم في إحدى سيارات المواشي و لم تهتز شعرة في بدن أحد! و لو أضربت عن الطعام، سأكون واحدة من ضمن ملايين، أضربوا عن الطعام قسرا لسنين!
   
      كل ليلة ننتهي إلى أننا سنستمر في المحاولة.. ليس لنا خيارٌ آخر! ألم نعد رفاقنا و نحن نودع أجسادهم الغضة أننا سنستمر؟ كل ليلة.. أعود إلى غرفتي المظلمة، لأشعل شمعة و أحاول أن أكتب خلاصةً أفكار أعلم أنها كبيرة بالرغم من صغري أنا أمام لحية الشيخ فلان و بندقية اللواء علان.. كل ليلة، أحاول أن أجد مخرجا و ما أكاد أبتسم لبداية انفراج، حتى أسمع دوي القصف... أحاول أن أخدع نفسي و أقول.. لا علاقة لنا بهذا.. عسكر و مسلحون.. نحن شبابٌ سلمي كنا و ما زلنا نضحي من طرف واحد.. لكن عند دوي الانفجار الثاني، تصبح الكذبة عارا و تتساقط دموعي لتطفئ شمعتي الوحيدة...فأنا أعلم أن كل انفجار يحصد وجوه الأطفال و النساء و الرجال التي ستظل تلاحقني إلى أن أموت... أعلم أن الرجل المسلح و الجندي في الطرف الآخر هما يمنيون مثلي! أحاول أن أهرب من صور الجثث التي اختزنتها مخيلتي منذ شهور، أذهب إلى نافذتي لأرقب الناس و هم يحومون في الأسواق حتى الفجر.. و من حين لآخر تُسقط الطائرات الحربية ما في جعبتها من تحيات أرسلها جلالته لشعبه المسكين، و تسقط من عيني الدموع لأن الناس ما زالوا يتسوقون... فعلا، إن أسوأ الحالات الوجدانية هي اللامبالاة! يبدو أن هذا الشعب قد أُلِفَ الموت...
 
     بنفس الروتين اليومي العجيب منذ 27 نيسان/أبريل و حتى اليوم، أحمل جسدي إلى طرف طاولتي العتيقة لأصلي لروح ناصر... و بنفس الحنجرة المختنقة بالدموع التي ودعته بها يوم 27 نيسان/أبريل و هم يدخلونه إلى ثلاجة الموتى، أخبرهُ عن أحلامي... أقول له عن وطن حلمنا به معا... أستمعُ إلى ذات الأغنية التي أستمع إليها في طريقي إلى المقهى... أستمعُ إلى ذلك المقطع: كان بدي أغير العالم، لكن العالم غيرني... كان بدي أحمل السما.. و هلأ أنجأ حامل نفسي(**)..
    عيناه باسمتان في تلك الصورة التي أصحبها معي أينما ذهبت.. بنيتان كلون البن أيضا... ناصر ينظر إلي من وراء الإطار و كأنه يعلم شيئا لا أعلمه.. أيا كان هذا الشيء، فهو أفضل من كل الذي أعيشه الآن.. لأجل ناصر، سأظل أحاول حتى أموت... أنا أعلم أننا قليل.. أعلم أن الجميع قد كفر بالسلمية.. لكني كما قلت دائما أؤمن بما كفر به الجميع... و لو قتلوني ستظل أفكاري حية.. سأظل أدعو الجميع لجمع الكتب و الألعاب.. سأظل أخرج خلف مسيرات الورود و البالونات أصيح: يا سجان يا سجان.. معتقلينا في الوجدان.. و بالتأكيد سأظل أؤمن بالسلمية و أكفر بالحرب الأهلية...



//هوامش:
*يقول ماركس ان ظروف العمل التي أوجدها المجتمع الرأسمالي تؤدي إلى اغتراب العامل، أي لا تعطيه الفرص والإمكانيات الكافية لتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية التي يسعى من أجلها. فالعامل هو شخص مغترب عن وسائل الإنتاج طالما أنه لا يحصل على القناعة والسعادة من عمله ولا يحصل على ثمرة جهوده وأتعابه. إذًا العامل هو كائن مغترب عن الطبيعة الحقيقية للإنسان على حد تعبير ماركس. وهذا يعني أن تقسيم العمل والتوزيع غير متكافئ للسلطة والأرباح، وهذه هي مزايا الإنتاج الصناعي الرأسمالي، منعت العامل عن مزاولة طاقاته البشرية الخلاقة وبالتالي جعلته يستنزف طاقاته الكامنة ولا يستغلها لصالحه.

** الأغنية اسمها: قول إني منيح لفرقة مشروع ليلى اللبنانيةhttp://www.youtube.com/watch?v=yMjem_VhIeI +


* – صنعاء، اليمن (خاص بـ "الاتحاد") و نشر أيضاً في موقه الجبهة الديموقراطية للسلام و المساواة- فلسطين

أنا الآن امرأة...

    كعادتي تركت عيناي تعبثان بالنظر هنا و هناك من زجاج نافذة سيارة الأجرة... فمنذ طفولتي و عيناي لا تستطيعان مقاومة زجاج نافذة أي سيارة, و كأن تلك النافذة كرتي البلورية الخاصة التي تمكنني من اختلاس النظر إلى ذلك العالم العجيب الذي لا أستطيع سماعه بسبب صوت المذياع المرتفع الذي لم نعره اهتماماً "لا أنا و لا سائق السيارة الذي ظل يتصل و يجيب بكل أصدقائه ليتفقوا على مكان جسلة القات يوم الخميس". تجولت عيناي مع باعة الصحف و الفل و ألعاب الأطفال و المناديل و أشرطة الأغاني و ملابس الأطفال و ملابس الكبار و قنينات المياه المعدنية و إسفنجات الاستحمام و ماسحات السيارات و أشياء أخرى كثيرة لم أستطع و لم أُحاول أن أفهم ما هي, ثم أخذت أفقد التركيز و أنا أتتبع موجات الألوان الآتية من لوحات الإعلانات لأفيق على صوت بائعة متجولة و هي تستجدي قيمة غداء اليوم و هو ما يحدث يومياً في  دقائق انتظار السيارات للضوء الأخضر , أقصد إشارة شرطي المرور فأغلب الإشارات لا تعمل, و لا أدري إذا كانت معاناتي من فقدان التركيز تجعلني أهذي أو أنه بالفعل يتزامنُ بث الإذاعةلفقراتٍ عن إنجازات الحكومة في مكافحة الفقر و تمكين المرأة دائماً مع نقرات الأظافر المهترئة لهذه المتسولة أو تلك البائعة على زجاج نافذة سيارة الأجرة الذي عادةً ما يقوم سائقها بزجر السائلة


     طأطأتُ رأسي و حاولت أن أنشغل بالفراشات المرسومة على حقيبتي الحمراء و هي  عادةٌصاحبتني منذ طفولتي, فأنا دائماً أهربُ من انفعالاتي الساذجة لعادةٍ أكثر سذاجة كعد الفراشاتِ المرسومة فوق حقيبتي! و لكني عدت مشدودةً إلى النافذة أرقبُ سلسلة محلات الأزهار و أرادت عيناي أن تنفصلا عن وجهي و ترحلا صوب تلك الورود الجورية الندية, فاستسلمتُ لتلك النشوة التي طالماً اعتلتني لدى مشاهدة الورود الجورية و ليكتمل المشهد جاء صوت كاظم الساهر "هل عندك شكٌ أنكِ أحلى و أغلى امرأةٍ في الدنيا و أهم امرأةٍ في الدنيا؟" فضحكتُ بشدة و لكني سرعان ما كتمتُ ضحكتي فأنا لم أعد طفلة! فأنا الآن امرأة و لا أستطيع الضحك بصوتٍ عالٍ في سيارة الأجرة! الأمر و ما فيه هو أنني لم أستطع أن أُقاوم صورة نزار قباني " أنا أعني تلك الصورة الشهيرة عندما كان في العشرينات و هو يرتدي البذلة البنية التي تكسر حدة لون شعره الأشقر"و هو يقدمُ لي وردةً جورية حمراء و يسألني: هل عندك شك أن دخولك في قلبي هو أعظم يوم بالتاريخ وأجمل خبر في الدنيا هل عندك شك أنك عمري وحياتي وبأني من عينيك سرقت النار وقمت بأخطر ثوراتي؟" و أنا أُجيبه فوراً: عذراً فأنا أُفضل الورود البيضاء و لا أطيق الحمراء و بالطبع عندي شك!!!! و حينها تذكرت كلمات الكاتبة أحلام مسغانمي إننا كائنات نذرت عمرها للانتظار , حتى نسينا ما كنا ننتظر بالضبط في البداية , وحتى نسي من كنا

     ننتظرهم انتظارنا لهم" فيا تُرى في أي عمرٍ يصبحُ الغزلُ مضحكاً؟ و في أي عمرٍ تصيرُ الوردةُ الجورية أوراقاً سريعةَ التساقط محمولة على ساق من شوك؟ و كيف نذرتُ عمري للانتظار حتى نسيتُ ما كنتُ أنتظر و نسيني من كنتُ أنتظره؟
قاطعَ تساؤلاتي السائق الذي أخيراً توقف عن الحديث في هاتفه ليقول لي ها قد وصلنا.. دفعت أجرة رحلتي و مضيت متجاهلةً صوت الساهر و هو يكملُ يا امرأةً تكسِرُ حينَ تمُرُّ ، جدار الصوت... لا أدري ما ذا يحدث لي ؟

     جلستُ على عتبة المنزل و أنا يغمرني شوقٌ لضفائري و تنورة المدرسة الرمادية و كراستي الزرقاء التي كنت أكتب فيها قصائد نزار... لا أدري أين هي الكراسة و لا أدري ماذا حلّ بتنورتي, أما ضفائري فقصصتها و لم تنمو مجدداً... لا يهم فأنا صرتُ امرأة و ليس من اللائق أن تكون لي ضفائر! صعدتُ درج المنزل و أنا أدندن: "بيقولوا الوقت بيقتل الحب... حبوا بعضن تركوا بعضن... حبوا.. تركوا..." ثم توقفت عن الغناء و أنا أوبخ نفسي, يالني من خرقاء! دائماً أنسى أنهُ لم يعد بإمكاني الغناء في درج المنزل... أنا الآن امرأة!

سارة جمال علي أحمد
16/12/2010