Saturday, October 13, 2012

شدي عليكِ الجرح و انتصبي... أمسية في مطار..


                                 شدي عليكِ الجرح و انتصبي :"")


كنت بانتظار أن يسألني أحد و لكن يبدو أن الجميع قد اعتاد غيابي المتكرر و في المرة الوحيدة التي تمنيت أن أسئل.. لم يسألني أحد...

هذا ما كنت أفكر فيه قبل أسبوع عندما كنت أجلس في مقهى جردني من نصفي الموجوع ليمنحني إحساساً لم أجربه من قبل و أنا بانتظار صديق في المطار.. غالباُ ما ينتظرني الآخرين إما لكثرة أسفاري و إما لأنني لم أحضر إلى موعدٍ في الوقت المحدد طيلة حياتي... و لكني يومها كنت أنتظر صديقاً عزيزاً جاء من السويد ليشاركني أحد أهم ليالي خريف باريس.. الليلة البيضاء التي ترتدي فيها باريس أوراق الخريف بابتسامة تفوق موناليزا اللوفر بهاءً لتفتح أبواب مقاهيها و حاناتها و متاحفها و كل بيوت ثقافتها مجاناً في تمام التاسعة مساءً و حتى شروق الشمس أمام كل من ابتغى أن يروي العطش لربة الثقافة في هذا الكون: باريس.
نصفي الآخر كان يتلوى كعصفور أصيب في عينيه و احتجز في غرفة مظلمة لا يستطيع بلوغ شباكها من كثرة تخبط  جناحيه الصغيرين بين الجدران الإسمنتية... أحاول الهرب من أناتي الحيية بالنظر لما حولي.. جنود يعودون إلى بلدهم و حولي رفاق و حبيبات و أمهات و أباء بانتظارهم.. ربما يعودون إلى فرنسا من مكان ما قرب بلدي حيث صار لكل جيوش العالم قواعد و بوارج... فكرت لحظتها بأنه ربما من الأفضل أن لا أنظر إلى الجنود حتى لا أبدأ في التفكير في الناتو و المارينز و و و .... حتى أنتهي كالعادة بالصراخ في وجه أول شخص أراه " -في تلك الحالة-  صديقي السويدي" عن وقاحة السفير الأمريكي في اليمن. ربما من الأفضل أن أنظر إلى الورقة التي كتبت عليها أحد النكات التي كانت دائماً تُضحك صديقي السويدي الذي بات عربي المزاج  و الهوى بعد شهر من الرفقة اليومية مع أصدقاء أحضروا معهم فيروز و الشيشة و نكت الصعايدة و الخلايلة و الحماصنة و في حالتنا اليمنية :" الدحابشة و ياتو و الشماليين و الجنوبيين  و الإصلاح و الحوثيين و البدو و اللغالغة و أصحاب ريمة و مرة واحد حضرمي و مرة واحد ذماري و القائمة التي لا تنتهي إلا بمرة واحد -حاشدي-"

اليوم أنا أيضاً في مقهى المطار و لكن في فرانكفورت هذه المرة... أنتظر طائرتي لأعود إلى صنعاء... كعادتي أقتل لحظات الانتظار بذات الأبيات:

"لابد من صنعاء و إن طال السفر... لابد منها حبنا.. أشواقها: تدوي حوالينا: إلى أين المفر؟"

و بالرغم من أنني أتغني بباقي الأبيات دائماً منذ أن سمعتها بصوت المقالح في الإذاعة و أنا طالبة في الإعدادية, إلا أنني اليوم لا أستطيع أن أتم الأبيات لأن هناك صوت أقوى مني و من خياراتي... صوتً حزين يحاصرني أنا و ما أسميها خيارات:


 "صار لي شي مية سنة مشلوحه بهالدكان ضجرت مني الحيطان و مستحيه تقول ...و أنا عيني عالحلا و الحلا عالطرقات غنيلو غنيات و هو بحالو مشغول" 

لم أستطع أن أطرد أغنية فيروز و لم أستطع أن أتجاوز السؤال الذي أتت به الأغنية إلى خاطري: هل خياراتي هي بالفعل خيارات؟ أم أنني أمني نفسي بأنني اخترت كي يتمكن كبريائي و عنادي من تجاوز الواقع الذي أعجز أمامه و أخشى أن يقودني عجزي إلى وهن يميتني ببطء  بنفس طريقة المقالح الذي يحاول أن ينسجم مع معشوقته صنعاء و مع أنصال السيوف الذي تشهرها كل يوم في وجوه عشاقها, ليجعل لكل ذلك الألم منطقاَ حين يختم القصيدة:

"حيناً وطـال بهـا التبلـد والخــدر....سيثور في وجـه الظـلام صباحهـاحتما...ويغسل جـدبهـا يومـاً مطـر"

فجأة أدركت أنني اليوم أحمل سخط الدنيا على قصيدة المقالح! كأنني غاضبة من أنه يمني نفسه و أنا معه بمطر لا أعرفه! فالمطر في صنعاء هو ذلك الوحل الذي يغرق السيارات في الغالب و أحياناً الجسور التي تكلف المليارات و تبنى في خمس سنوات لينسى المهندسون بعدها وضع منافذ للمياه فتغرق المركبات بمن عليها و كأننا في في تسونامي آسيوي أو إعصار كانوا بالتأكيد سيطلقون عليه اسم امرأة كالعادة و في حالتنا سيكون بلقيس أو ربما مسعدة أو أمة الشكور...
و أنا في عز الغضب تذكرت آخر سهرة رمضانية مع الأصدقاء في صنعاء القديمة و التي تلاها المطر و بالطبع غرقت السيارة و ظللنا نبحر في الشارع حتى وصلنا مع مدفع السحور, فضحكت و عاد لي شوقي للمدينة القديمة و حتى الإبحار في المطر... فكل شيء يخففه الرفقة التي تمنحني ما أحتاج للاستمرار... و لكني عدت للاختناق مرةً أخرى و أنا أهز رأسي عبثاُ لأتخلص من هاجس تلك الكلمات:

 اللي ذكر كل الناس بالأخر ذكرني...قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس و تشتي الدنيي و يحملو شمسية ....و أنا بأيام الصحو ما حدا نطرني"

في المرة الوحيدة التي تمنيت أن أَسئل و لم يسألني أحد... نعم.. هذه المرة لم يسألني أحد إن كنت أريد العودة.. لذا بادرت أنا بالحديث قبل بضعة أيام و قلت لأحد الأصدقاء في اليمن: هذه أول مرة أريد أن أعود! و لأول مرة جاء صوت أكثر أصدقاء تفائلاً,جافاً وسريعاً كلفحة ريح العواصم الأوروبية التي دائماً ما تمنحني سعالاً حاداُ قبل أن أغادرها...حدثني عن الاحتراب المحتمل... عن الخسائر التي لن نتفادها... قال الكثير الذي أعرفه مسبقاُ و لذا لم يتوخى حذر أن يؤلمني و هو يواصل: نحن في اليمن لا نعيش... نحن فقط موجودون..

وجدت نفسي أذرف دموعاَ لا أدري ما سببها... اغتراب خاص و عام... و بينهما محيط مظلم من الوحدة التي صنعتها خياراتي تارةً لتضاعف لي بدورها خياراتٍ لا بديل لها عندما نتواجد فقط و لا نحيا... و ما الحياة؟ فمن هم مثلي لا يجدون الحياة في مقاهي و حانات و واجهات الشانزيليزيه..  من هم مثلي يعلمون أن البقاء حتمي حين نبدأ معركة قطعنا وعداً بأن ننهيها...

بدأت أقاطع فيروز و دموعي و عجزي أمام تساؤلاتي الأزلية: هل اخترت النسوية و الشارع أم أن الشارع و النسوية اختارا وحيدة أبويها  ذات الجسد الضئيل الذي لا يحمل أحذية العسكر و القلب الغض الذي لا يقوى على الخفقان خلال وجبة عشاء في مطعمها المفضل في صنعاء ذو الواجهة الشفافة اللامعة التي يقبع وراءها عشرات الأطفال بانتظار قطعة خبز من أحد الزبائن... من اختار من؟ و متى قصقصت ضفائرها التي كانت تعقدهما أمها بعناية كل صباح؟ متى انتقلت من الحياة إلى التواجد؟ متى أصبحت قادرة على أن تحول الدموع إلى جبروت يطرد كل من يجردها من إنسانيتها ليضعها في خانة "الضلع الأعوج"؟

أحسست بشلل أوقف محاولاتي النهوض بعد نداءات موظفة المطار المتكررة للصعود إلى الطائرة... و لوهلة رأيت انعكاس وجهي على النافذة أمامي... رأيت بريقاً كذاك البريق الذي رافق عيناي في كل مرة اشترت لي أمي كتاباً جديداً أو رفعني أبي على ظهره في رحلتنا الأسبوعية للسوق... يبدو أن الدموع غسلت كل شيء إلا ذلك البريق... و لأول مرة لم أطق سماع فيروز و لا قصيدة المقالح و نهضت و أنا أردد:

شّدي عليك الجرح وانتصبي ... بداية حياتي هي أن أن أصير موجودة... لا وقت لاغترابي أو وحدتي... و دموعي؟ أؤجلها إلى المطار القادم... إلى بلدٍ آخر حين أمتلك رفاهية التفكير بوحدتي و دموعي و أشواقي و أحلامي و كل ما يعنيني.. أما في بلدي كل صباح هو معركة وجود... فربما... ربما يوماً أحيا...

2 comments:

  1. هي غربة الروح التي منها نعاني
    واحتراب المبادئ مع كل ما حولنا
    هي غابة سوداء نبحث في متاهتها عن بصيص ضوء
    لعل وعسى يشرع لنا باب الامل ويُفتح امام ارواحنا

    ReplyDelete
  2. كل كلمة لها وزن ومعنى .. وايحاء

    جميلة جداً

    شكراً

    ReplyDelete