Friday, August 30, 2013

فيما يتسامر المنطق مع العدل في الجحيم...

يصادف اليوم ال 30 من أغسطس, آب, اليوم العالمي للمخفيين و هو اليوم الذي تنعي العدالة نفسها و هي تتنقل منذ عقود بين أروقة المباني الأممية وقد أٌلصقت بها صفة –الانتقالية- حتى أضحى روتين كتالوجات الأمم المتحدة و مبعوثيها الذين تعادل أجور ساعات اجتماعاتهم القيمة التي تنثرها الحكومات على أرواح المفقودين بتعويضات مالية في أفضل الحالات..
في بلادي اليمن الحال يختلف كثيرا, فبالرغم من هتافاتنا المستمرة: "يا سجّان يا سجّان, معتقلينا في الوجدان" تأتي اللطمات من كل جهة بدايةً بحصانةٍ كفلت للسجان مسحوقاً لتبيض كل بقع الدم الملطخة على يديه منذ ما يفوق ثلاثة عقود, بينما حل شركائه محل الأبطال و هم يقطفون ثمار تضحيات الطاهر نضالهم/ن في انتفاضة الخامس عشر من يناير2011 ليصبحوا و بعد أن ارتدوا رداء النضال الذي يباع في أسواق الساسة تحت صنف "المعارضة".
أشاهد من نافذة حجرتي وجوهاً أصبحت أعينها تطالع شوارع مدينتي في تحدٍ صارخ لكل يومياتنا و اهتماماتنا الخاصة و العامة ببساطة لأن تلك الوجوه التي طبعتها أنامل شبان و شابات طيلة أشهر على جدران المدينة تذكرنا أنه لا يمكن لدولة أن تقوم على أنقاض أخرى لم تكشف مصير من أخفاهم سجانوها منذ عقود و حتى الآن..




أهرب من الأعين و أنا لأول مرة أشكر طبقات الستائر -الدخيلة على مدينتي كباقي دخائل حرب الخليج و مجالبها لبلدي- ببساطة لأن بإمكانها أن تنسيني الشارع و الجدران, لكنها لا تنسيني الوجوه, ربما لأني لم أحاول قط نسيانها.. و ها أنا أعود لطقسي اليومي و أقلب الكتيب الصغير القابع في أحد رفوف مكتبتي المتهالكة: علي خان, قناف زهرة, عبد العزيز عون هم من أطالع وجوههم كل مساء  ليس لأن باقي الوجوه لا تحضرني بل لأن أكثر الوجوه سهولة للحفظ هي تلك التي طبعتها بيدي على جدران المدينة التي شهدت جل انتصاراتي و هزائمي مرورا بنزقي ,لب تكويني.. و لا يقاطع تأملي الطويل في الأعين و الأنوف الدقيقة و تفاصيل هذا الجبين و ذلك الشارب إلا تكملة الطقس الذي لا ينتهي إلا برنات عود علي السمة الذي لا أدري لماذا ارتضت مخيلتي أن تربطه بحقبة كنت أتمنى لو أني عشتها لأتمسك بعصريات القهوة و الخضاب و المصر الطالعي و ملحقاتها التي ذابت في السواد الذي يغلف عصريات مدينتي الآن..


يدندن السمة مذكراً القافلة بأن المراحل طوال و عاد وجه الليل عابس, لترص صفوف "أمرجال" و تستنفر كل الفوارس.. و لكن أين هي القافلة؟ هل من المنطق أن تمتد المراحل من الاستعمار و الملكيات التي غنى للثوار ضدها كل من غنى حتى اليوم؟ فليذهب المنطق إلى الجحيم, و لأسأل باستدلال أكثر قربا و أستنجد بالعدل و أهيب به أن يفسر لي كيف للتاريخ أن ينكب هذه البقعة التي أعيش فيها من محيطها لخليجها بذات المعارك اليومية و المرحلية منذ ما يفوق مئة عام؟ يبدو أن العدل أيضاً قابع في الجحيم يتسامر مع المنطق بينما أقبع أنا على ضوء شمعة تكاد تنطفئ و أنا أفكر بآخر جدال خضته اليوم عن معركة "خاصة" لا أرى أنها تقل أهمية عن باقي المراحل الطوال بالرغم من الصوت الذي واجهني على الطرف الآخر من سماعة الهاتف ضارباً بكل ما يدور و سيدور حولنا في وجه –الخاص- لينصص : "هناك صواريخ تنتظر سوريا, و عبوات ناسفة على الطريق!"
هربت من فكرة أولوية الصواريخ و العبوات الناسفة التي "بالعدل" و "المنطق" يجب أن تتفوق بكل تأكيد على معارك خضابي و مصري الطالعي و عصريات القهوة! و لكن العدل و المنطق يتسامران في الجحيم! لذا من حقي أن أفتح الشباك و أصرخ باكيةً عصرياتي! نعم, فلقد تظاهرت و اعتصمت لأجل الحرية و أبسط ما استحققته في المقابل هو حقي في الصراخ! و لكن بمجرد ما أن فتحت الشباك واجهتني الأعين و الأنوف و الشوارب و التساؤلات المحيطة بهم لتكتم أنفاس صراخي المأمول و تعيدني إلى مكتبتي و ألحان القافلة و المراحل الطوال و صواريخ سوريا..
في حجرة أدنى قليلاً من تلك التي يحتلها العدل و المنطق في قعر الجحيم, هناك نحن... مرثياتنا ليست بحاجة لتجديد, فحتى اليوم في عام 2013 يقف اليمنيون , و أقول اليمنيون لأن معظم العرب يملكون القدرة على تذكر مرثيات الكون إلا تلك التي جاءتهم من بلد البن و القات و بلقيس و أروى, عند الذكرى الرابعة عشر لوفاة أعماهم البصير و هم لا يستحضرون قصائد غزله و إنما يتمتمون مثلي , كلٌ في ركنه المظلم, ما يبدو أنه صالح لمحيطنا و خليجنا و ما بينهما من نكبات منذ القرن التاسع عشر و حتى الآن:


مـا أصدق السيف! إن لم ينضه الكذب
وأكـذب السيف إن لم يصدق الغضب
بـيض الـصفائح أهـدى حين تحملها
أيـد إذا غـلبت يـعلو بـها الـغلب
وأقـبح الـنصر... نصر الأقوياء بلا
فهم.. سوى فهم كم باعوا... وكم كسبوا
أدهـى مـن الـجهل علم يطمئن إلى
أنـصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا
قـالوا: هـم الـبشر الأرقى وما أكلوا
شـيئاً.. كـما أكلوا الإنسان أو شربوا
مـاذا جـرى... يـا أبا تمام تسألني؟
عفواً سأروي.. ولا تسأل.. وما السبب
يـدمي الـسؤال حـياءً حـين نـسأله
كـيف احتفت بالعدى (حيفا) أو النقب)
مـن ذا يـلبي؟ أمـا إصـرار معتصم؟
كلا وأخزى من (الأفشين) مـا صلبوا
الـيوم عـادت عـلوج (الروم) فاتحة
ومـوطنُ الـعَرَبِ الـمسلوب والسلب
مـاذا فـعلنا؟ غـضبنا كـالرجال ولم
نـصدُق.. وقـد صدق التنجيم والكتب
فـأطفأت شـهب (الـميراج) أنـجمنا
وشـمسنا... وتـحدى نـارها الحطب
وقـاتـلت دونـنا الأبـواق صـامدة
أمـا الـرجال فـماتوا... ثَمّ أو هربوا
حـكامنا إن تـصدوا لـلحمى اقتحموا
وإن تـصدى لـه الـمستعمر انسحبوا
هـم يـفرشون لـجيش الغزو أعينهم
ويـدعـون وثـوبـاً قـبل أن يـثبوا
الـحاكمون و»واشـنطن« حـكومتهم
والـلامعون.. ومـا شـعّوا ولا غربوا
الـقـاتلون نـبوغ الـشعب تـرضيةً
لـلـمعتدين ومــا أجـدتهم الـقُرَب
لـهم شموخ (المثنى) ظـاهراً ولهم
هـوىً إلـى »بـابك الخرمي« ينتسب
مـاذا تـرى يـا (أبا تمام) هل كذبت
أحـسابنا؟ أو تـناسى عـرقه الذهب؟
عـروبة الـيوم أخـرى لا يـنم على
وجـودها اسـم ولا لـون.ولا لـقب
تـسـعون ألـفاً (لـعمورية) اتـقدوا
ولـلـمنجم قـالـوا: إنـنـا الـشهب
قـبل: انتظار قطاف الكرم ما انتظروا
نـضج الـعناقيد لـكن قـبلها التهبوا
والـيوم تـسعون مـليوناً ومـا بلغوا
نـضجاً وقـد عصر الزيتون والعنب
تـنسى الـرؤوس العوالي نار نخوتها
إذا امـتـطاها إلـى أسـياده الـذئب
(حـبيب) وافـيت من صنعاء يحملني
نـسر وخـلف ضلوعي يلهث العرب
مـاذا أحـدث عـن صـنعاء يا أبتي؟
مـليحة عـاشقاها: الـسل والـجرب
مـاتت بصندوق »وضـاح«بلا ثمن
ولـم يمت في حشاها العشق والطرب
كـانت تـراقب صبح البعث فانبعثت
فـي الـحلم ثـم ارتمت تغفو وترتقب
لـكنها رغـم بـخل الغيث ما برحت
حبلى وفي بطنها (قحطان) أو(كرب)
وفـي أسـى مـقلتيها يـغتلي (يمن)
ثـان كـحلم الـصبا... ينأى ويقترب
»حـبيب« تسأل عن حالي وكيف أنا؟
شـبابة فـي شـفاه الـريح تـنتحب
كـانت بـلادك (رحلاً)، ظهر (ناجية)
أمـا بـلادي فـلا ظـهر ولا غـبب
أرعـيت كـل جـديب لـحم راحـلة
كـانت رعـته ومـاء الروض ينسكب
ورحـت مـن سـفر مضن إلى سفر
أضـنى لأن طـريق الـراحة التعب
لـكن أنـا راحـل فـي غـير ما سفر
رحلي دمي... وطريقي الجمر والحطب
إذا امـتـطيت ركـاباً لـلنوى فـأنا
فـي داخـلي... أمتطي ناري واغترب
قـبري ومـأساة مـيلادي عـلى كتفي
وحـولي الـعدم الـمنفوخ والـصخب
»حـبيب« هـذا صـداك اليوم أنشده
لـكن لـماذا تـرى وجـهي وتكتئب؟
مـاذا؟ أتعجب من شيبي على صغري؟
إنـي ولـدت عجوزاً.. كيف تعتجب؟


1 comment: