تتوالى
تعريفات النضال النسوي و العدالة الاجتماعية على حد سواء في كتب علم الاجتماع و تختلف باختلاف المدارس
المتعددة و كذلك المسارات التاريخية للنضال, إلا أن المحاولة الوحيدة لدراسة التأثير
المتبادل بين النضال النسوي و السعي الإنساني من أجل إحقاق العدالة الاجتماعية لا
يمكن أن تتحقق إلا من خلال التمحيص الدقيق في النضال اليومي لنساء شكلن قوام الحراك
الاجتماعي عبر مستويين للنضال أحدهما عام و الآخر خاص و كلاهما لم يتجزأ تاريخياً
في أي تجربة نضالية عن الآخر. و منذ بداية
القرن العشرين و اتضاح تقسيم العالم و ثرواته في صالح قوى دون أخرى, تعددت أوجه
النضال ضد الجور و الاستغلال من قبل
الأقلية المستحوذة على الثروة سواء كانت من الداخل أو الخارج المحتل, إلا أن أبرز
النماذج التي حملت طابعاً ثورياً و لكن في ذات الوقت شكلت نموذجاً لمراحل الحراك
الاجتماعي عميق التأثير الذي حمل في طياته نضال النساء العام و الخاص هو معركة
النسويات الأمريكيات من أصل أفريقي.
تأتي أنغام
موسيقى الجاز الأفريقية الأمريكية و هي تراقص قصة نضال استمر لقرون و صمد في وجه
العبودية و جرائم الإبادة بسبب التنصيص على قضايا ذوي البشرة السوداء في التراث
الثقافي الذي كان وحده الناقل الأبقى للقضية جيلاً بعد جيل, فننصت إلى البعد التاريخي
لذلك النضال الذي لا يُجزأ و الذي تصفه أسطورة الجاز الأفريقية الأمريكية نينا
سيمون في رائعتها: " Backlash رد فعل عنيف ":
من تظنني؟
قمت برفع
الضرائب ، وتجميد الأجور
وأرسلت ابني
إلى فيتنام
تستطيع أن
تعطيني منزلا من الدرجة الثانية
و مدارس من
الدرجة الثانية
هل تعتقد أن
الملونين هم حمقى من الدرجة الثانية ؟
و بالرغم من
كلمات أغاني الجاز و البلوز التي عددت مطالب المساواة الاقتصادية و السياسية و
الاجتماعية التي شكلت قوام النضال من أجل عدالة اجتماعية من خلال حركات النضال
الأفريقية الأمريكية في القرن العشرين, إلا أن المغنيات النساء مثيلات نينا سيمون
و غيرها أرّخن لوجود النساء في هذا الحراك من خلال أغنيات كالتي سبق ذكرها مع
تأريخ لنوع آخر من النضال و هو نضال النساء من أجل النساء داخل النضال الجمعي, و
نرى ذلك جلياً في أغنية نينا الشهيرة: "Four Women أربعة نساء" و التي عددت من خلالها أشكال
العنف المبني على النوع الاجتماعي التي تتعرض له كل نساء الأرض بخلفياتهن العرقية
و الأثنية المختلفة بشكل عام و العنف المركب التي تتعرض له نساء الأقليات و الفئات
المضطهدة و الفقيرة, و هكذا صار بإمكاننا تتبع مستويات نضال النساء من خلال التراث
الإنساني و التاريخي الحديث الذي إن دققنا فيه نجد أن الرؤية اليسارية للنضال
النسوي كانت الرؤية الأشمل من أجل توحيد نضالات البشر ككل في سبيل عدالة اجتماعية
حقيقية و عمياء تُمنح للجميع دون تفرقة.
إن الحديث عن
معركة النساء الأفريقيات الأمريكيات يأتي كمثل يُستشهد به هنا و ليس على سبيل
الحصر, فذات المعركة خاضتها النساء في جنوب أفريقيا و جنوب شرق آسيا و أمريكا
اللاتينية و أوروبا و تعيد الآن نساء العالم العربي خوضها بعد أن خضنها في ستينات
و سبعينات القرن الماضي خلال و بعد حركات
التحرر من الاستعمار آنذاك, إنها ذات المعركة حيث تنخرط النساء في كل مرة في صفوف الفئات الشعبية من أجل انتزاع أركان العدالة
الاجتماعية من غذاء و مسكن و ملبس و رفاه اقتصادي و اجتماعي للجميع دون تفضيل لفئة
اجتماعية أو لطبقة على أخرى, إلا أن هذا النضال يضع النساء دائماً أمام معضلتين
تتسبب أولاهما في الأخرى:
أولاً: انخراط النساء في النضال الشعبي:
وجد العامل
الأوروبي نفسه في مواجهة القهر الرأسمالي
لحقوقه العمالية و كان دوماً هو الضحية الأولى لانهيار السوق, كما وجد الرجل
الأفريقي الأمريكي نفسه في مواجهة الفصل العنصري العرقي في مرحلة ما و هي تشبه في
بعض تفاصيلها ما واجهه الرجل الجنوب أفريقي,
و كذلك الرجل الفلسطيني الذي كان و لا يزال يواجه يومياً عواقب وجود الكيان
الصهيوني من اعتقالات و تهجير و استيطان و حصار,
و منذ الاستقلال و حتى يومنا هذا لا يزال الرجل العربي بشكل عام يواجه
أشكال القمع السياسي و الفساد و النزاعات المسلحة و غيرها. لكن المشهد يختلف بعض
الشيء إن لم يكن كلياً إن أسقطنا ذات المظالم في الأمثلة السابق ذكرها على النساء
في ذات السياق و في ذات المراحل التاريخية ببساطة لأن العنف الذي واجه و يواجهه
الرجل هنا و هناك تجعل أمامه عدواً واحداً يجمع قواه لهزيمته كلما أتت الحتمية
التاريخية بأسباب و تراكم النضال من أجل العدالة الاجتماعية إلا أن النساء يواجهن
عنفاً مركباً يجعل العبء مضاعفاً بل و يجعل مشاركتهن في أي في من مظاهر النضال
تحدياً و مفترق طرق في اتجاه أي تغيير اجتماعي.
في الوقت
الذي اضطهد فيه العامل الأوروبي واستعبد الرجل الأفريقي الأمريكي و مُيّز ضد الرجل
الجنوب أفريقي و نُكل بالرجل الفلسطيني و قُمع الرجل العربي و غيرهم من الرجال في
باقي بقاع العالم و في الحقب التاريخية المختلفة, اضطهدت النساء لنفس الأسباب في
الفضاء العام و لكن واجهن عنفاً ضاعفاً من الرجال في بيئتهن أيضاً داخل المنازل و
في مجتمعاتهن الصغيرة, و بالتالي أصبحت المرأة بمواجهة عنف الاستغلال الرأسمالي و
العنف العرقي و عنف الاحتلال و الديكتاتوريات الشمولية في الفضاء العام, و في ذات
الآن أمام عنف أسري و مجتمعي يمارس ضدها في الفضاء الخاص لتصبح أمام معركتين في
إطار أي نضال شعبي: أولاهما هي الانخراط في النضال الشعبي الجمعي مع باقي فئات
الشعب من أجل عدالة اجتماعية حقيقية و الثانية مواجهة القمع الذي تمارسه السلطة
الذكورية من داخل الفئات المناضلة بحيث تمنع النساء في مجتمعاتهن من النضال جنباً
إلى جنب مع الرجال. و من هنا شهد التاريخ و لا يزال يشهد على نماذج عديدة لمعركتي
النساء في الفضاءين العام و الخاص خلال الفترات التحررية, ففي الوقت الذي ناضل
النساء و الرجال جنباً إلى جنب في منذ بداية القرن الماضي و حتى سبعينياته في
الولايات المتحدة من أجل حقوق ذوي و ذوات البشرة السوداء, خرجت النساء الأفريقيات
الأمريكيات في تظاهرات قُمعت بعنف من الرجال البيض و السود على حد سواء عندما
طالبن منع النساء البيض بحق النساء بشكل عام في التصويت في الانتخابات البرلمانية
و الرئاسية. و تكرر نفس النموذج في جنوب أفريقيا و الهند و في العالم العربي خلال
فترة التحرر من الاستعمار, حيث كانت النساء جزءً لا يتجزأ من الكفاح الشعبي السلمي
و المسلح ضد الاستعمار في معظم الدول العربية, و كانت النساء بمواجهة المعتقلات و
الرصاص و أيضاً بمواجهة أبناء بلدانهن من أجل حقوقهن في التعليم و العمل و الترشح
للانتخابات, فحين كانت جميلة بو حريد تعذب في معتقلات الاستعمار الفرنسي في
الجزائر, كانت هدى شعراوي تناضل من أجل حقوق النساء المصريات في التعليم و العمل
إلى جانب وقوفها مع الرجل ضد الاستعمار الانجليزي في مصر, و نجد ذات الصورة حيةً
في تاريخ نضالات النساء اليمنيات اللاتي كن حاضرات و بقوة على الجبهتين, جبهة
النضال من أجل العدالة الاجتماعية و جبهة انتزاع حقوقهن كنساء و على رأس هذه
الحقوق, الحق في المشاركة في الحراك الشعبي بشكل عام سواء في القرن الماضي في فترة
النضال من أجل الاستقلال في الجنوب و الجمهورية في الشمال.
و لقد جاءت
الانتفاضة الشعبية في اليمن عام 2011, لتؤكد على هذه المعضلة بقوة, فوجدت النساء
اليمنيات أنفسهن بمواجهة هذا العنف المركب على عدة مستويات أبرزها:
-
العنف السياسي الموجه ضد النساء و الذي
مارسته معظم القوى السياسية ضد النساء بشكل أظهر أنه على الرغم من اختلاف القوى
السياسية في اليمن على جوانب أيديولوجية و سياسية و مصالح اقتصادية مختلفة إلا
أنها اتفقت جميعاً على أمر واحد و هو تهميش النساء كقوى فاعلة و استخدامهن كأعداد
أمام الفضائيات تارة و كورقة سياسية للنيل من هذا الحزب أو ذاك النساء عبر حملات
القذف و التشهير و التنكيل و أحياناً التكفير و تناول الجوانب الشخصية لحياتهن
بطريقة تعكس النَفَس الذكوري للأطراف
السياسية المختلفة في اليمن بما فيها تلك التي تدعي التقدمية. و من هنا واجهت
النساء منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية أشكالاً من العنف السياسي الذي تعاطى مع
النساء بمبدأ العورة التابعة للرجل و التي لا يتم التعاطي معها بسبب موقفها
السياسي كنظيرها الرجل و إنما بسبب هيئتها و تفاصيل حياتها الشخصية و هو الأمر
الذي لم يعاني منه الرجل.
-
العنف السياسي الذي مارسه الرجال ضد النساء
في ميدان النضال الواحد و ظهر ذلك جلياً من خلال قمع الهتافات النسوية, و فصل
المسيرات و الاعتصامات بحجة منع الاختلاط بشكل قضى على وحدة النضال و على وجود
النساء في الميادين كشريكات في الحراك, و قوبلت حالات الاحتجاج على هذه الممارسات
بحملات تشهير و قذف ضاعفت عبء العنف السياسي الذي رأت النساء أنهن بمواجهته حيث
استعدين من قبل القوى السياسية الشريكة في النضال و كذلك من قبل القوى السياسية
المعادية و اللاتي كن شريكات الرجال من أجل الإطاحة بها.
-
العنف الأسري في مجتمع لا تزال النساء غير مالكات لحرية
التنقل و المشاركة في الحياة العامة فيه و بالتالي وجدت المرأة اليمنية نفسها
بمواجهة القيود التي تفرضها الأسرة على النساء
اللاتي أردن الالتحاق بأشكال النضال المختلفة.
ثانياً: إيجاد مكان للنساء في فترة ما بعد الاحتجاجات:
فكما هو الحال عليه في
مختلف التجارب, وجدت النساء اليمنيات بعد
انقضاء الاعتصامات في عام 2011 أنفسهن في نفس الحالة التي كن عليها من قبل إبان
الاستقلال و انتهاء حكم الإمامة في ستينات القرن الماضي مستثنيات من العملية
السياسية و كأن لسان حال الأحزاب السياسية المختلفة يهمس لهن بانتهاء مهمتهن
كأمواج بشرية أمام عدسات الفضائيات الراصدة لاحتجاجات 2011 و هي المعضلة التاريخية
التي تجد المرأة نفسها بمواجهتها بعد أي حراك شعبي مطالب بالعدالة الاجتماعية و
الذي ناضلت بشراسة أولاً لتكون جزء منه لتجد نفسها بعد ذلك تناضل من جديد لتصبح
جزء من نضال ما بعد الاحتجاجات في الشارع, و لو أخذنا تعريفاً عاماً للعدالة
الاجتماعية التي طالما اتخذتها معظم الحركات المطلبية شعاراً, سنجد أنها معرفة
في موسوعة علم الاجتماع على أنها نوع من المساواة الذي له أهميته
الجوهرية في تحقيق الصالح العام (1) و هكذا يظل مبدأ المساواة حاضراً
في المفاهيم المتعددة للعدالة الاجتماعية التي ركزت الاتجاهات السياسية المختلفة
على مناحِ متعددة في التعاطي معها بداية بفلاسفة اليسار الذين طالما جعلوا جوهر
العدالة الاجتماعية في التوزيع العادل للثروة بما يضمن المساواة في الانتفاع بها و
انتهاء بالفلاسفة الليبراليين الذين تعاطوا مع العدالة من باب ضمان الحريات
بأنواعها كذلك بشكلِ متساوٍ, و من هنا لابد من طرح سؤال هام: كيف يمكن للنساء أن
يستثنين من مبدأ المساواة؟ و كيف يمكن لأي حراك مطالب بالعدالة الاجتماعية عدم
الإيمان بالنضال النسوي بوصفه جزء لا يتجزأ من النضال في سبيل المساواة التي تسعى
العدالة الاجتماعية لترسيخها؟
لم يكن من السهل بمحلٍ أبداً أن تجد النساء لأنفسهن مكاناً يضمن التعامل
معهن أمام القانون على أساس المواطنة المتساوية بعد معظم الانتفاضات الشعبية التي
قدمن التضحيات فيها مثل وأكثر من الرجال أحياناً, و بالرغم من هذا الأمر الذي
لطالما تم الحديث عنه في مختلف المراحل التاريخية إلا أن الجانب الذي تتعاطى معه
معظم الأدبيات يكمن دائماً في رصد مستوى المشاركة السياسية للنساء بوصفه مقياساً
لمدى تقدمية النظام السياسي الجديد في بلدٍ ما و أحياناً يؤخذ كمقياس على مدى حصول
النساء على حظهن من العدالة الاجتماعية في بلدانهن و هو أمر غير دقيق و لا يعكس
بأي حال من الأحوال مدى تمتع النساء بعدالة اجتماعية حقيقية تحمل في جوهرها جوانب
المواطنة المتساوية التي تعد أهم أركان العدالة الاجتماعية. إن النص التالي من
منشور تحت عنوان: "إلى النساء العاملات في كييف"، الذي وزعه البلاشفة في
كييف، أوكرانيا، خلال يوم المرأة الأممي 08 مارس 1915 و يوضح طبيعة فهم البلاشفة
أنداك و الذي لم يتغير في أدبيات اليسار منذ ذلك الوقت و حتى الآن لموقع النساء في
السعي من أجل العدالة الاجتماعية:
« إن وضع المرأة يرثى
له، مثله مثل وضع أغلبية العمال، لكنه أكثر سوءا. إنها تشتغل في المعمل وفي الورشة
لصالح رب العمل الرأسمالي، وتشتغل في البيت لصالح رب العائلة.
« آلاف العاملات تبعن
قوة عملهن للرأسمال؛ تكدح الآلاف منهن في العمل المأجور؛ وتعاني الآلاف ومئات
الآلاف منهن تحت نير الاضطهاد الأسري والاجتماعي. ويبدو الحال للأغلبية الساحقة من
النساء العاملات وكأنه يجب أن يكون على هذا الشكل. لكن هل حقا لا تستطيع المرأة
العاملة أن تأمل في مستقبل أفضل، وأن هذا المصير رهنها لحياة كاملة من العمل
والعمل فقط، دون توقف ليلا ونهارا؟
« أيتها الرفيقات، أيتها النساء العاملات! إن رفاقنا الرجال يكدحون معنا.
مصيرهم ومصيرنا واحد. إلا أنهم تمكنوا منذ وقت بعيد من إيجاد الطريق الوحيد الذي
يقود إلى حياة أفضل: إنه طريق النضال العمالي المنظم ضد الرأسمال، طريق النضال ضد
جميع أنواع الاضطهاد والشرور والعنف. أيتها النساء العاملات، ليس هناك من طريق آخر
أمامنا. إن مصالح العمال والعاملات متشابهة، إنها نفس المصالح. فقط في خضم نضال
موحد إلى جانب العمال الرجال، فقط من خلال الالتحاق بالمنظمات العمالية، أي الحزب
الاشتراكي الديمقراطي والنقابات والأندية العمالية والتعاونيات العمالية، سنتمكن
من الحصول على حقوقنا وتحقيق حياة أفضل.»(2)
و في نفس الإطار وفي
تطبيقٍ أكثر قرباً من حياة النساء اليمنيات نجد نص المادة 36 من
دستور اليمن الديمقراطية الشعبية المعدل في 1978 يقول: "تضمن الدولة حقوقا متساوية للرجال والنساء في جميع مجالات الحياة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية وتوفر الشروط اللازمة لتحقيق تلك المساواة . وتعمل الدولة كذلك على خلق الظروف التي تمكن المرأة من الجمع والمشاركة في العمل الإنتاجي والاجتماعي ودورها في نطاق الحياة العائلية , وتعطى المرأة العاملة رعاية خاصة للتأهيل المهني . كما تؤمن الدولة حماية خاصة للنساء العاملات والأطفال , وتقوم بإنشاء دور الحضانة ورياض الأطفال وغير ذلك من وسائل الرعاية كما يبين القانون"(3)
و هكذا كان اليسار
بمشاربه المختلفة يرى نظرياً و عملياً أن جوهر تحقيق العدالة الاجتماعية و الرفاه
للشعوب يكمن في التمكين الاقتصادي للنساء بحيث يجدن أنفسهن في بيئة تسمح لهن
بالتواجد الفعال و المساوي للرجل بين صفوف الطبقة العاملة الكادحة و كذلك في
النقابات و التعاونيات المدافعة عن حقوق هذه الطبقة بغض النظر عن الجنس و النوع الاجتماعي.
و انعكست هذه السياسة على إنتاجية النساء و انخراطهن في العمل النقابي في اليمن
الديمقراطية الشعبية سابقاً بشكلٍ استطاع أن يدمج نساء الطبقة الكادحة في المصانع
و يخفف من أعباء الأخريات العاملات بأدوات الإنتاج التقليدية بسبب الدعم الحكومي
المقدم لمعظم الخدمات التعليمية و الصحية و السكنية وقتها, و ألقى ذلك بضلاله على
مشاركة النساء في الحياة العامة بنواحيها سواء في صفوف الحزب أو النقابات أو في
المجالات الثقافية و العسكرية.
و بالرغم من أهمية
التجربة اليسارية في محاولة تحقيق المساواة عبر إدماج النساء في القوى الإنتاجية و
نضال الطبقة الكادحة في أنحاء مختلفة من العالم و في جنوب اليمن سابقاُ إلا أن ذلك
لا يعني أن اليسار لم يرتكب خطأً فادحاً في اعتبار النضال النسوي جزء من النضال
العمالي حصراً دون إعطاءه خصوصية و مساحة لتحقيق مكتسبات للنساء لم تعترف بها
الأحزاب الشيوعية الغربية التي حرمت بيروقراطيتها الستالينية النساء من حقوقهن
الإنجابية و لم توفر لهن الحماية في قوانين الأحوال الشخصية و تجاهلت المظالم التي تتعرض لها النساء التي
وضح إنجلز عمقها في مؤلفاته. أما الأحزاب الشيوعية و الاشتراكية العربية فقد ارتكبت خطأ من نوع آخر عندما تجاوزت
الخصوصيات الثقافية و قفزت فوق المراحل اللازمة للتغيير الاجتماعي عندما إسقاط
النظريات الماركسية و اللينينية بحذافيرها مما أثر سلباً على وضع النساء الاجتماعي
لاحقاً بل و ساعد المؤسسات الثيوقراطية على العودة بهن قروناً إلى الوراء, و بالعودة
لليمن و تجربة اليسار الحاكم فيه سابقاً, نجد أنه بالرغم من وجود نماذج لنساء
برزت أسمائهن في السياسة و الثقافة و الفنون و الأمن إلا أن ذلك لا يعني بأي حال
من الأحوال أن حقوق النساء اليمنيات آنذاك كانت نتاج نضال نسوي مطلبي و إنما نتاج
أيديولوجية الحزب الحاكم في ذلك الوقت الذي قررت سلطته الذكورية إيجاد مساحة تقدمية
للنساء في جنوب اليمن سابقاً و التي تم تضييقها لاحقاً بواسطة السلطة الذكورية
للقوى التي أتت للحكم بعدها.
:
و كمثال نرى أن أبرز خطوةٍ قام بها المشرع اليمني في ظل
نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح و التي كان من شأنها هدم أسس المواطنة
الكاملة للنساء هو إلغاء المادة (27) من دستور
1991 و التي كانت تنص على أن: "المواطنون جميعهم سواسية أمام القانون
و متساوون في الحقوق و الواجبات العامة و لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو
اللون أو الأصل أو اللغة أو المهنة أو المركز الاجتماعي أو العقيدة" (4)
و التي تم استبدالها عام 1994 بنص المادة
(31) : "النساء شقائق الرجال و لهن من الحقوق و الواجبات ما تكفله و توجبه
الشريعة و ينص عليه القانون" و
المادة (41): "المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق و الواجبات العامة. (5)
تكمن خطورة استبدال المادة (27) من دستور 1991 بالمادتين
(31) و (41) من الدستور الحالي في مسألتين, أولاهما هي التفرقة الواضحة بين
الجنسين في أهم وثيقة تتضمن الحقوق المدنية لأفراد الشعب في تأصيل لتبعية جنس لآخر
بحيث لا يكون للمرأة كيانها إلا بكونها شقيقة للرجل و ليس بإنسانيتها المجردة مما
يجعل المساواة المذكورة في المادة (41) منقوصة. أما النقطة الثانية فهي توظيف نص
مقتطف من حديث نبوي بشكلٍ يقتصهُ من السياق الذي رُويَ فيه و الذي كان في سياقهِ
رداً على سؤالٍ يتعلق بمسألة فقهية خاصة بالغسل و ليس الحقوق و الواجبات المدنية,
و في هذا تلاعبٌ خطير بعواطف المجتمع اليمني عن طريق اقتصاص نص نبوي من بقيته و
سياقه لتبرير المواطنة الناقصة للنساء المبطنة في تبعيتهن للرجال.
و هكذا أضحت النساء
اليوم في معركة للنضال من أجل ما تمتعت به أخريات قبل عقود في ظل حركة نسوية طور
التشكل ببساطة لأن المرأة اليمنية اليوم تجد نفسها في حاجة لإيجاد حركة مطلبية
تهتم بحقوقها بعد أن تم الاستعانة بها كورقة سياسية في انتفاضة 2011 على أمل الدفع
بها إلى الظل مرة أخرى بعد انقضاء التظاهرات.
ماذا يمكن فعله؟
çالتعامل مع
قضايا النساء كقضايا أساسية لتحقيق الديمقراطية و العدالة الاجتماعية و التعامل مع
القضية النسوية كصراع اجتماعي و ليس صراع بين الجنسين.
ç إدماج الرجال في
عملية النضال النسوي و استعمال مصطلح النسوية بالضميرين المؤنث و المذكر
"ناشطة نسوية" و "ناشط نسوي" لوصف المدافعات و المدافعين عن
حقوق النساء لإعادة الاعتبار للنضال النسوي و لتصحيح المفهوم المغلوط الذي يبرز النسوية كنشاط محتكر على النساء فقط.
ç تحمل الأحزاب اليسارية و التقدمية لمسؤوليتها التاريخية
تجاه نضال النساء و وضع الحقوق الاقتصادية للمرأة اليمنية على رأس أولوياتها بحيث
تحمل هم المرأة الريفية بشكل رئيسي لتترجم ذلك في الدستور القادم و ما سيترتب عليه
من قوانين تعترف بعمل المرأة الريفية و تحدد ساعات العمل و حقها في الحصول على
الأجر و امتلاك الأرض و الدخول في الضمان الاجتماعي ة تضمن لها الاستقلالية
المادية و تحميها من العنف الاقتصادي و ذلك عبر استعادة المادة 36 من دستور اليمن
الديمقراطية الشعبية السابق و مادة المواطنة رقم 27 من دستور 1991 للجمهورية
اليمنية لضمان مواطنة النساء الكاملة دون تبعية و إلحاق بالرجل.
ç إنهاء عزل النساء في الأحزاب و النقابات و حصرهن
في دوائر المرأة و التعامل معهن كأجسام غريبة, و بدء التعامل مع النساء كحزبيات و
نقابيات كشركائهن من الرجال و إغلاق دوائر المرأة لما فيها من ضرر على مبدأ
العدالة الاجتماعية و المواطنة الكاملة للنساء.
ç اكتساح النساء التقدميات للأحزاب التقدمية عبر
الانتساب و الترشح لمراكز صنع القرار داخل الأحزاب و قطاعاتها الطلابية و السعي
إلى التثقيف الجدي و النوعي لطالبات و طلاب الجامعة من كافة الخلفيات الاجتماعية و
السياسية بحقوق النساء السياسية و الاقتصادية والإنجابية و الاجتماعية و كذلك
النزول الميداني الدوري لتثقيف النساء و الرجال في الريف بأهمية حقوق النساء من أجل تحقيق العدالة
الاجتماعية الشاملة للمجتمع ككل.
ç إيجاد مساحة للفكر التقدمي الداعم لنضالات النساء
و تحقيق العدالة الاجتماعية في الإعلام التقليدي و المسموع بشكل خاص كونه الأكثر
تداولاً بين مختلف الفئات الشعبية و بلغة تتناسب مع اللامركزية و التنوع الجغرافي
مع مراعاة الخصوصية الاجتماعية و الثقافية و الدينية.
ç عدم القفز على الصيرورة التاريخية للتغيير
الاجتماعي و محاولة نقل النموذج الليبرالي الغربي و حصر قضايا النساء في مشاريع
المجتمع المدني النخبوية الساعية لإرضاء الداعم الأجنبي دون مراعاة الاحتياجات
الحقيقية للنساء اليمنيات , و مراعاة البيئة اليمنية و العمل على إيجاد نموذج نسوي
يمني متفرد لينجح على المدى البعيد دون المساومة على حقوق النساء و المكتسبات التي
يأملن أن يحزن عليها.
ç التعليم و التدريب المهني النوعي لنساء الأرياف و
رفدهن بوسائل إنتاج حديثة بشكل يسمح لهن بالاستفادة من بيئاتهن لتحقيق الاكتفاء و
الاستقلال الاقتصادي و رفع جودة الإنتاج.
ç إدماج صورة المرأة العاملة المنتجة في كل من
الريف و الحضر في مناهج التعليم الأساسي و العالي و بشكل يُطبّع بين أهمية إنتاجية
المرأة و الأجيال الناشئة بالإضافة إلى إيضاح الشراكة بين الرجل و المرأة في رعاية
الأسرة في كل الجوانب دون قصر رعاية الأطفال على النساء بشكل يرسخ تقسيم الأدوار
الاجتماعية بشكل عادل خارج إطار الطابع البطريركي المشجع على تنميط أدوار النساء بشكل لا يمكنهن من استخدام
مهاراتهن و إمكانياتهن في خدمة أنفسهن و المجتمع و تشجيع العنف الأسري الموجود في
المناهج الحالية .
ç على النقابات أن تستوعب أصل الصراع الذي يكمن في القدرة على ضبط آليات العمل المجدي و أن تستقطب النقابات
النساء خاصة العاملات في القطاعات غير المنظمة
كالزراعة و الصيد و الصناعات التقليدية بالإضافة إلى نساء الفئات الاجتماعية
المهمشة و إدماجهن في صناعة القرار و ذلك عبر الآتي:
*الاعتراف باحتياجات العاملات وبأولوياتهن النوعية.
* تعمّيق وعي النساء العاملات بميزات العمل النقابي.
* تنظّم حملات تنسيب و استقطاب العاملات خاصة العاملات في القطاع
غير المنظم.
* تنظّيم ندوات متخصّصة تضمّ الجنسين من أجل معالجة معمّقة لإدماج المرأة في العمل النقابي, و تحسين صورة
النقابات و توضيح أهميتها في صون حقوق النساء و تجنّب عقد ندوات للنساء فقط والعمل
على إشراك العاملات والعمال في الأنشطة التثقيفية.
*مراعاة أوضاع المرأة في تحديد مواعيد الاجتماعات العامة
والملتقيات النقابية و إنهاء ثقافة مقايل القات في صناعة القرار.
* تعميق الدور الاجتماعي للنقابات من خلال توفير
خدمات خاصة بالنساء.
* على النساء
القياديات أن يتغيّرن لينخرطن تلقائيا في النقابات وللنضال من أجل اكتساح مواقع
القرار في النقابات.
* أن تشترك النقابيات في الإعداد للمفاوضات وفي
خوضها.
و في الختام تذكير بما قاله تروتسكي عام 1938:
" وضع المرأة هو المؤشر الأكثر وضوحا وتعبيرا لتقييم نظام اجتماعي ما وسياسة
دولة ما" (6)
المراجع:
1.
الحسن، احسان محمد (1999) موسوعة
علم الاجتماع. بيروت: الدار العربية للموسوعات، ص460.
2. Lenin's Struggle for a Revolutionary International, p. 268))
3. دستور اليمن الديمقراطية الشعبية, 1978
4. دستور الجمهورية اليمنية, 1991
5. دستور الجمهورية اليمنية, 1994
6. (Trotsky, Writings (1937-38), p. 170)